اعمدة راَي

فتاة عالقة في حرب

سلا ٱسامة

عزيزي ، الحرب مصيبة، بل هي أشد مصائب الحياة و أكثرها إيلاماً.

منذ أشهر إستيقظت على صوت الحرب من جديد بعد نزوحي من الخرطوم لبيت العائلة في مدينة أخرى إسمها (مَدَنِي)، و التي وصلتها براثن الحرب أيضاً،

مؤسس المدينة هو جدي (وَدْ مَدَنِي السُنِّي) ففيها نشأتي الأولى و عائلتي الممتدة، لذلك كان نزوحي منها كمن يقتلع من جذوره اقتلاعاً فكان الألم أشد و الجراح أنكأ.

و أنا أنزح ظل سؤال ينخر عقلي :

– كان سؤالي ؛ لماذا توقفت؟

أقصدك أنت!

يبدو أن الحرب نهاية لكل البدايات،

عندها تنتهي الحياة و تتوقف الأحلام و ردك على رسائلي، حتى أنك لم تعد تقول صباح الخير كما العادة!

– تساءلت كيف ألحظ غيابك بوضعي هذا في خضم الحرب و الخسارة؟

ربما لأني أردت أن أشعر بالحميمية تجاه شخص بعيد لا يشبهني ولا يشبه الحرب!

ظللت أضع أسباب غيابك و أرد عليها و لازلت لا أفهم لماذا أهتم !

من ردودك المقتضبة تلك لطالما عرفت أنك رجل لطيف لكنك قليل الكلام، اما أنا فأثرثر كثيراً، لا أكف عن الثرثرة، فالمبالغة من صفات برج الميزان .

أبالغ في الشكر و في طلب الأشياء التي أريدها و في شعوري بالامتنان وعند حصولي عليها.

علمتني الحرب أن أصمت و أن أكف عن طلب الأشياء.

حسناً، فكرت ربما كانت الإجابة أبسط بكثير من الأسباب التي وضعتها أنا ؛ بأنك فقط لم تر رسائلي لازدحام صندوق رسائلك !

– ألا تكون الإجابة أحياناً أبسط من السؤال نفسه ؟

– هل هي مرتك الأولى التي تكتب لك فيها فتاة عالقة في حرب؟

أحدثك من القاع

لم أسمع صوت إرتطامي بالقاع لكني شعرت به !

أشعر أني أسقط في بئر مظلم لا نهاية لظلمته ولا أمل بالخروج منه.

– أسبق لك أن فقدت الأمل ؟

هل تعلم أني أعيش عليه في هذه الحرب أكثر من الطعام و الماء ؟

و أني أرافق أحلام يقظتي !

أختلق كل يوم قبل النوم حكاية أعيشها كأنها حقيقة فأغمض عيني لتأخذني بعيداً عن هذا الواقع و لكن كثيراً ما توقظني أصوات الطائرات الحربية و اهتزاز سريري و شباك غرفتي بصوت المدافع و القذائف.

كنت أحياناً أختارك لتكون في أحد أحلام يقظتي تلك فتخفف عني ثقل حياة الحرب و ثقل موتها.

يزداد الخطر و تزيد أحلامي !

– أنا فتاة لم تفقد الأمل يوماً، لكن لا أعلم لم ينتابني أحياناً شعور أني في هذا البئر دون أمل بالخروج منه ؟

هنا تنقطع الكهرباء لأيام و تعمل لساعات فقط، يشتد الحر حتى أقسم أني لم أشهد صيفاً كهذا.

أتعرق حتى تظن إن رأيتني أني نجوت من الغرق !

و لكني صاحبة الخيالات و أحلام اليقظة الكبيرة ؛ فأغمض عيني أتخيلني في شقتي في الخرطوم و أن مكيفي يعمل فأشعر بنسمة هواء و ببرودة تسري في جسدي فيجف عرقي.

كم أتمنى لو أعود إلى هناك :

(الخرطوم_جاردن سيتي_برج ميم_الدور الخامس_شقة رقم ٩)

فالحياة مع العائلة بعد الاستقلال عنهم لأكثر من أربعة سنوات صعبة للغاية.

– لماذا لا نستطيع العودة للبيت كأول مرة خرجنا منه؟

لا يسلم أحد في المنزل من لساني الطويل و من مزاحي،

لكني أرى عيونهم كثيراً ما تضحك على تصرفاتي و إن خالفها قول لسانهم، أعلم أني أخفف عنهم الكثير بتصرفاتي الطفولية تلك.

و بعد كل ما عشناه معاً من نزوح و خسارتنا لمنزلنا علمتني الحرب أن العائلة تأتي أولاً.

– هل تقبلنا عائلتنا إن صرخنا علو صوتنا بحقيقة أفكارنا و أفعالنا و ميولنا و نظرتنا و إختلافنا ؟

كنت أظن أن اسوأ ما قد يصيب المرء هو فراق شخص يحبه أو أن اسوأ ما قد يصيب المرء هو مرض ؛ كمرضي العضال و بأنه سيكون هو مصيبتي الكبرى عندما يبدأ جهاز مناعتي بمهاجمة جسدي.

أو ربما يكون الأسوأ مثلاً مشكلة مالية أوقع نفسي فيها يوماً ما بالرغم من حرصي.

لكن صدقني، إن اسوأ ما قد يصيب الإنسان (حرب)!

 

كم أمقت هذا الشعور، تصيبني الغبطة و تعتصرني أحشائي عندما أفكر فيما فقدته بسبب الحرب لكني لم أبكي ! مر أكثر من عام على آخر مرة بكيت فيها.

 

هنا الحرب ليست قصفاً أو أصوات قذائف و موت ؛

الحرب هنا همجية كشعبي هذا، إنه مُصر على أن يمارس همجيته حتى في حروبه.

الحرب هنا تعني أن نستباح نحن و أن المعارك ستخاض على أجسادنا و بيوتنا و أموالنا لا على ساحات القتال.

كلما سمعنا صوت سيارات المليشيا علمنا أن الموت قادم و الاغتصاب قائم فلا محالة من الهروب تاركين كل شيء.

اعتدنا الهروب و اعتادوا اللحاق بنا

و كأننا نلعب (الغميضة) لكن لا تتبدل الأدوار فيها أبداً، نظل نهرب و نختبئ و يظل عساكر (الجنجويد) يطاردوننا كفريسة.

هذا هو نزوحي الرابع، أعيش الآن مع عائلتي في قرية بعيدة عن مدينتنا و لكن ما زالت أصوات الحرب قريبة و تحاصرنا المليشيا.

هنا ؛ حيث نحن لا وجود للحرب ولا وجود للسلام، عالقون فقط بينهما تنهكنا أصوات الحرب و يأكلنا شوقنا لأمن بيوتنا.

عزيزي :

يريحني أن أخرج مكنونات قلبي لرجل لا أعرفه و أعرفه في آنٍ واحد.

ماذا لو أخبرتك أني أستطيع التكهن بخباياك؟

أدَّعي أنني اقرأ الناس من أعينهم! و بأني أجيد لغتها!

ربما لو التقينا يوماً أخبرتك عنك!

على ذكر اللقاء ؛ أتدري أني أحب ليل القاهرة أكثر من ليل الخرطوم ؟

أشتاقها كثيراً ؛ أشتاق السير في شوارعها مع صديقي (أدهم) بعد خروجنا من مقاهي وسط البلد و التمشية على (الكورنيش) حتى (العجوزة) أو (الزمالك) التي كثيراً ما نفطر فيها صباحاً ثم أعاود الرجوع لحي (المنيل) حيث أسكن مع صديقتي الأقرب (إيمان).

نيل القاهرة لا يشبه نيل الخرطوم، الأول هادئ رغم صخب الناس على كورنيشه و الثاني متحرك رغم هدوء الجالسين على ضفافه.

أحب الألفة بين المتضادات هذه كاختلاف مشاعري بين أن أراسلك أو أتوقف عن ذلك ؛ لكنها رسالة أحتاجها،

فأنا فقط أحتاج أن أكتب

لا أعلم لمَ أكتب لك بالذات غير أني امرأة تفعل ما تشعر به.

شعرت أنني أريد أن أكتب إليك فكتبت،

بسيطة أنا كفعلتي هذه

أو أني أبسط من أن أتخيل حجم ما فعلت!

اسمح لي أن أكتب لك و عدني أن تقرأ لي

و سأرسل.

لتكن في سلام

تحياتي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى